[b][center]
الحلقة الثانية من
يوم في بيت الرسول
الرسول في بيته
بيت الإنسان هو محكه الحقيقي الذي يبين حسن خلقه، وكمال أدبه، وطيب معشره،
وصفاء معدنه، فهو خلف الغرف والجدران لا يراه أحد من البشر وهو مع مملوكه
أو خادمه أو زوجته يتصرف على السجية وفي تواضع جم دون تصنع ولا مجاملات مع
أنه السيد الآمر الناهي في هذا البيت وكل من تحت يده ضعفاء، لنتأمل في حال
رسول هذه الأمة وقائدها ومعلمها كيف هو في بيته مع هذه المنزلة العظيمة
والدرجة الرفيعة! «قيل لعائشة: ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت:
كان بشرًا من البشر: يفلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم نفسه»( ).
إنه نموذج للتواضع وعدم الكبر وتكليف الغير، إنه شريف المشاركة ونبيل
الإعانة، وصفوة ولد آدم يقوم بكل ذلك، وهو في هذا البيت المبارك الذي شع
منه نور هذا الدين لا يجد ما يملأ بطنه عليه الصلاة والسلام.
قال: النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو يذكر حال النبي عليه أتم الصلاة
وأزكى التسليم: «لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل( ) ما يملأ بطنه»( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن كنا آل محمد نمكث شهرًا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء»( ).
ولم يكن هناك ما يشغل النبي عن العبادة والطاعة.. فإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح لبى النداء مسرعًا وترك الدنيا خلفه.
عن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة رضي الله عنها، ما كان النبي يصنع في
البيت؟ قالت: «كان يكون في مهن أهله، فإذا سمع بالأذان خرج»( ).
ولم يؤثر عنه أنه صلى الفريضة في منزله ألبتة، إلا عندما مرض واشتدت عليه وطأة الحمى، وصعب عليه الخروج وذلك في مرض موته .
ومع رحمته لأمته وشفقته عليهم إلا أنه أغلظ على من ترك الصلاة مع الجماعة
فقال : «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس ثم
أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم
بيوتهم»( ).
وما ذاك إلا من أهمية الصلاة في الجماعة وعظم أمرها. قال : «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر»( )، والعذر خوف أو مرض.
فأين المصلون اليوم؟ بجوار زوجاتهم وقد تركوا المساجد!!! أين عذر المرض أو الخوف!!!
هديه وسمته
حركة الإنسان وسكنته علامة على عقله ومفتاح لمعرفة قلبه.
وعائشة أم المؤمنين ابنة الصديق رضي الله عنهما خير من يعرف خلق النبي ،
وأدق من يصف حاله عليه الصلاة والسلام فهي القريبة منه في النوم واليقظة
والمرض والصحة، والغضب والرضا.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «لم يكن رسول
الله فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح»( ).
وهذا خلق نبي الأمة الرحمة المهداة والنعمة المسداة عليه الصلاة والسلام
يصف لنا سبطه الحسين رضي الله عنه بعضًا من هديه حيث قال: سألت أبي عن
سير النبي في جلسائه، فقال: «كان النبي دائم البشر، سهل الخلق، لين
الجانب، ليس بفظ غليظ ولا صخاب، ولا عياب، ولا مشاح، يتغافل عما لا يشتهي،
ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء،
والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيبه،
ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه،
كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من
تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون
منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته
حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: «إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها
فأرفدوه»( )، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى
يجوز فيقطعه بنهي أو قيام»( ).
تأمل في سجايا وخصال نبي هذه الأمة واحدة تلو الأخرى.. وأمسك منها بطرف وجاهد نفسك للأخذ منها بسهم فإنها جماع الخير!
وكان من هديه تعليم جلسائه أمور دينهم.. ومن ذلك
أنه قال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار»( ).
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»( ).
وقوله : «بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»( ).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»( ).
وعنه : أنه قال: « إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب»( ).
وقال : «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة»( ).
وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»( ). والإطراء: هو مجاوزة الحد في المدح.
وعن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني
أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ
إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا
وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا
القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»( ).
وعلى هذا فلا تجوز الصلاة في المساجد التي فيها قبر أو قبور.
بناته
كانت ولادة الأنثى في الجاهلية يومًا أسود في حياة الوالدين، بل وفي حياة
الأسرة والقبيلة، وسار الحل بهذا المجتمع إلى وأد البنات وهن أحياء خوف
العار والفضيحة، وكان الوأد يتم في صور بشعة، قاسية ليس فها للرحمة موطن
ولا للمحبة مكان، فكانت البنت تدفن حية، وكانوا يتفننون في تلك الجريمة
فمنهم من إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول
لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في
الصحراء فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها دفعًا ويهيل
عليها التراب بوحشية وقسوة.
وفي وسط هذا المجتمع الجاهلي خرج الرسول بهذا الدين العظيم الذي أكرم
المرأة أمًا وزوجة وبنتًا وأختًا وعمة، وقد حظيت البنات بحب رسول الله
فقد كان إذا دخلت عليه فاطمة ابنته قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها
مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في
مجلسها( ).
ومع محبة النبي عليه الصلاة والسلام لبناته وإكرامه لهن إلا أنه رضي بطلاق
ابنتيه أم كلثوم ورقية صابرًا محتسبًا من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب بعد أن
أنزل الله فيه تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب، وأبى أن يترك أمر
الدعوة أو أن يتراجع فإن قريشًا هددت وتوعدت حتى طلقت بنتي الرسول عليه
الصلاة والسلام وهو ثابت صابر لا يتزعزع عن الدعوة لهذا الدين.
ومن صور الترحيب والبشاشة لابنته ما روته عائشة رضي الله عنها حيث قالت:
كن أزواج النبي عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطيء مشيتها
من مشية رسول الله شيئًا فلما رآها رحب بها وقال: «مرحبًا بابنتي» ثم
أجلسها عن يمينه أو عن شماله( ).
ومن عطفه ومحبته لبناته زيارتهن وتفقد أحوالهن وحل مشاكلهن.. أتت فاطمة
رضي الله عنها النبي تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله
خادمًا، فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فلما جاء الرسول
أخبرته قال علي رضي الله عنه: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم،
فقال: «مكانكما» فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «
ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما، أو
أخذتما مضاجعكما، فكبرا أربعًا وثلاثين وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا
ثلاثًا وثلاثين فهذا خير لكما من خادم»( ).
ولنا في رسول الله أسوة حسنة في صبره وعدم جزعه فقد توفي جميع أبنائه
وبناته في حياته -عدا فاطمة رضي الله عنها- ومع هذا فلم يلطم خدًا ولم يشق
ثوبًا ولم يقم المآدب وسرادقات التعزية، بل كان عليه الصلاة والسلام
صابرًا محتسبًا راضيًا بقضاء الله وقدره.
وقد عهد إلينا بوصية عظيمة وأحاديث جليلة هي سلوة للمحزون وتنفيس للمكروب،
منها قوله : «إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي
خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها»( ) . وقد جعل الله عز وجل كلمات
الاسترجاع وهي قول المصاب: «إنا لله وإنا إليه راجعون» ملاذًا وملجأ لذوي
المصائب، واجزل المثوبة للصابرين وبشرهم بثواب من عنده تعالى: إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
***
معاملة الزوجة
في دوحة الأسرة الصغيرة تبقى الزوجة مربط الفرس وجذع النخلة والسكن والقرب.
يقول الرسول : «الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة»( ).
ومن حسن خلقه وطيب معشره عليه الصلاة والسلام، نجده ينادي أم المؤمنين بترخيم اسمها ويخبرها خبرًا تطير له القلوب والأفئدة!
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله يومًا: « يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام»( ).
بل هذا نبي الأمة وأكملها خلقًا وأعظمها منزلة، يضرب صورًا رائعة في حسن
العشرة ولين الجانب ومعرفة الرغبات العاطفية والنفسية لزوجته، وينزلها
المنزلة التي تحبها كل أنثى وامرأة لكي تكون محظية عند زوجها!
قالت عائشة رضي الله عنها: « كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي ، فيضع
فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق( ) فيتناوله ويضع فاه على موضع في»(
).
ولم يكن كما زعم المنافقون واتهمه المستشرقون بتهم زائفة وادعاءات باطلة.. بل ها هو يتلمس أجمل طرق العشر الزوجية وأسهلها.
عن عائشة رضي الله عنها: «إن النبي قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ»( ).
والرسول في مواطن عدة يوضح بجلاء مكانة المرأة السامية لديه وأن لهن
المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة، ها هو يجيب على سؤال عمرو بن العاص
رضي الله عنه ويعلمه أن محبة الزوجة لا تخجل الرجل الناضج السوي القويم.
عن عمرو بن العاص أنه قال لرسول الله : أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»( ).
ولمن أراد بعث السعادة الزوجية في حياته عليه أن يتأمل حديث أم المؤمنين رضي الله عنها وكيف كان عليه الصلاة والسلام يفعل معها.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد»( ).
ونبي هذه الأمة لا يترك مناسبة إلا استفاد منها لإدخال السرور على زوجته وإسعادها بكل أمر مباح.
تقول عائشة رضي الله عنها: خرجت مع رسول الله في بعض أسفاره، وأنا جارية
لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: «تقدموا» فتقدموا ثم قال: «تعالي حتى
أسابقك» فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم، وبدنت وسمنت وخرجت معه
في بعض أسفاره فقال للناس «تقدموا» ثم قال: «تعالي أسابقك» فسبقني، فجعل
يضحك ويقول: «هذه بتلك»( ).
إنها مداعبة لطيفة واهتمام بالغ، يأمر القوم أن يتقدموا لكي يسابق زوجته،
ويدخل السرور على قلبها، ثم ها هو يجمع لها دعابة ماضية وأخرى حاضرة،
ويقول: «هذه بتلك»!
ومن ضرب في أرض الله الواسعة اليوم وتأمل حال علية القوم ليعجب من فعله
وهو نبي كريم وقائد مظفر وسليل قريش وبني هاشم، في يوم من أيام النصر
قافلاً عائدًا منتصرًا يقود جيشًا عظيمًا، ومع هذا فهو الرجل الودود اللين
الجانب مع زوجاته أمهات المؤمنين، لم تنسه قيادة الجيش ولا طول الطريق ولا
الانتصار في المعركة أن معه زوجات ضعيفات يحتجن منه إلى لمسة حانية وهمسة
صادقة تمسح مشقة الطريق وتزيل تعب السفر!
روى البخاري أنه لما رجع من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيي رضي الله عنها
كان يدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به، ثم يجلس عند بعيره فيضع
ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
كان هذا المشهد مؤثرًا يدل على تواضعه ، لقد كان وهو القائد المنتصر
والنبي المرسل يعلم أمته أنه لا ينقص من قدره ومن مكانته أن يوطئ أكنافه
لأهله وأن يتواضع لزوجته، وأن يعينها ويسعدها.
ومن وصاياه عليه الصلاة والسلام لأمته: «ألا واستوصوا بالنساء خيرًا