[b]
الحلقة الرابعة من
يوم في بيت الرسول
بكاء النبي
كثير من الرجال والنساء يبكون لكن يا ترى كيف يكون البكاء ولمن يكون؟!
نبينا عليه الصلاة والسلام كان يبكي مع أن الدنيا في يده لو أرادها،
والجنة أمامه وهو في أعلى منازلها، نعم كان يبكي عليه الصلاة والسلام
ولكنه بكاء العباد، كان يبكي وهو يناجي ربه في الصلاة وعند سماع القرآن
وما ذاك إلا من رقة القلب وصلاح السريرة، ومعرفة عظمة الله عز وجـل وخشيـة
منـه
سبحانه.
عن مطرف -وهو ابن عبد الله بن الشخير- عن أبيه قال: «أتيت رسول الله وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء»( ).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله : «اقرأ علي»
فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من
غيري» فقرأت سورة النساء حتى بلغت وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ
شَهِيدًا قال: «فرأيت عيني رسول الله تهملان»( ).
بل تأمل في شعرات بيض تعلو مفرق رسول الله وما يقارب من ثمانية عشر شيبة
في لحيته الشريفة، وارع قلبك لتسمع من لسانه الشريف سبب تلك الشعيرات
البيض: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال : «شيبتني
هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت( ).
تواضعه
كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقًا وأكملهم قدرًا فخلقه القرآن كما
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن»( ) ولقد قال عليه الصلاة
والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»( ).
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام عدم محبته للمدح والثناء والإطراء.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا تطروني كما أطرت
النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله»( ).
وعن أنس رضي الله عنه: أن ناسًا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا،
وسيدنا وابن سيدنا، فقال: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم
الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي
أنزلني الله عز وجل»( ).
وبعض الناس يطري النبي غاية الإطراء فيعتقد أنه يعلم الغيب أو أن بيده
الضر والنفع ويجيب الحوائج ويشفي المرضى، والله عز وجل نفى ذلك كله فقال
تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ.
وهذا النبي المرسل خير من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء، دائم الإخبات
والإنابة إلى ربه، لا يحب الكبر، بل هو رأس المتواضعين وسيد المنكسرين
لربه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله
قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك»( ).
وألق بطرفك لنبي الأمة عليه الصلاة والسلام في تواضع عجيب وحسن خلق نادر
يتواضع فيه للمرأة المسكينة ويمنحها من وقته المليء بالأعمال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن امرأة جاءت إلى النبي فقالت له: إن
لي إليك حاجة، فقال: «اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك»( ).
يروح بأرواح المحامد حسنها
فيرقى بها في ساميات المفاخر
وإن فض في الأكوان مسك ختامها
تعطر منها كل نجد وغائر
وكان عليه السلام رأس أهل التواضع وعلمهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع
لقبلت»( ).
وللمتكبرين في كل عصر وحين يبقى حديث الرسول حاجزًا لهم ورادعًا لكبرهم واستعلائهم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»( ).
والكبر طريق إلى النار والعياذ بالله، حتى وإن كان مثقال ذرة، وتأمل في
عقوبة متكبر يختال في مشيته، كيف سخط الله عز وجل عليه وأنزل به غضبه
وأليم عقابه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «بينما رجل يمشي في حلة
تعجبه نفسه، مرجل رأسه( ) يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل( )
في الأرض إلى يوم القيامة»( ).
خادمه
هذا الخادم المسكين الضعيف أنزله الرسول منزلة تليق به، قياسًا على دينه
وتقواه لا على عمله وضعفه قال عليه السلام والصلاة عن الخدم والأجراء: «هم
إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما
تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم»( ).
ثم تأمل في خادم يروي عن سيده كلامًا عجيبًا وشهادة مقبولة وثناء عطرًا وهل رأيت خادمًا يثني على سيده مثل ما قال خادم رسول الله .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت رسول
الله .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «خدمت رسول
الله عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته [لم صنعته؟] ولا لشيء تركته لم تركته؟»( ).
عشر سنوات كاملة ليست أيامًا أو شهورًا إنه عمر طويل فيه الفرح والترح،
والحزن والغضب وتقلبات النفس واضطرابها وفقرها وغناها، ومع هذا فلم ينهره
ولم يأمره -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بل ويكافئه ويطيب خاطر
خادمه ويلبي حاجته وحاجة أهله ويدعو لهم.
قال أنس رضي الله عنه: قالت أمي: يا رسول الله خادمك ادع الله له، قال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته»( ).
ومع شجاعته عليه الصلاة والسلام فإنه لم يهن ولم يضرب إلا في حق، ولم يقس على الضعفاء الذين تحت يده من زوجة وخادم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا ضرب خادمًا ولا امرأة»( ).
بل ها هي أم المؤمنين رضي الله عنها تكرر الشهادة لخير الخلق وصفوة الناس
أجمعين وقد سارت الركبان بالحديث عن حسن سيرته ونبل معشره حتى شهد له كفار
قريش.
تقول رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله منتصرًا من مظلمة ظلمها قط ما
لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء، فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء،
كان من أشدهم في ذلك غضبًا، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم
يكن مأثمًا»( ).
وكان ينادي بالرفق والأناة قال عليه الصلاة والسلام: « إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله»( ).
الهدية والضيف
في حياة البشر حاجات عاطفية ودخائل نفسية تظهر الحاجة إليها دومًا في
المجتمع والأسرة والبيت، ومن الأمور التي تقرب القلوب وتذيب إحن النفوس
الهدية، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي كان يقبل الهدية ويثيب
عليها»( ) وهذا الإهداء والشكر من كرم النفوس وصفاء الصدور.
وخلق الكرم من أخلاق الأنبياء وسنن المرسلين، ولرسولنا قصب السبق والقدح
المعلى في ذلك أليس هو القائل: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم
ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل
له أن يثوي عنده حتى يحرجه؟»( ).
ووالله لم تشهد الغبراء ولا وهادها ولم ير الحجاز ولا الجزيرة، بل ولا
الخافقين أنبل أخلاقًا وأكرم صفاتٍ منه كحل عينيك -أيها القارئ- لترى
موقفاً من مواقفه العظيمة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام!!
عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله ببردة منسوجة
فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي محتاجًا إليها، فخرج إلينا
وإنها لإزاره فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها فقال: «نعم» فجلس النبي في
المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها
النبي محتاجًا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد سائلاً، فقال: إني
والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني قال سهل: فكانت كفنه»( ).
ولا تعجب من خلق من اصطفاه الله عز وجل ورباه على عينه وجعله القدوة، رسول
الله يضرب أروع الأمثلة في السخاء والجود، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه
قال: سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم
قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه،
ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد
العليا خير من اليد السفلى»( ).
وصدق الشاعر:
وله كمال الدين أعلى همة
يعلو ويسمو أن يقاس بثاني
لما أضاء على البرية زانها
وعلا بها فإذا هو الثقلان
فوجدت كل الصيد في جوف الفرا
ولقيت كل الناس في إنسان
عن جابر رضي الله عنه قال:ما سئل النبي عن شيء قط فقال، لا( ).
ومع هذا العطاء والسخاء في اليد إلا أن سخاءه منقطع النظير في الجود والبذل وطيب النفس وحسن المعاشرة وصدق المحبة.
كان من عادته أن يبش (يبتسم) إلى كل من يجلس إليه، حتى يظن أنه أحب أصحابه إلى قلبه.
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «ما حجبني رسول الله ولا رآني منذ أسلمت إلا تبسم»( ).
ولك في وصف شاهد كفاية وعبر.
وعن عبد الله بن الحارث قال: «مارأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله »( ).
ولماذا تعجب أيها الحبيب وهو القائل عليه الصلاة والسلام: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة»( ).
أما خادم رسول الله أنس رضي الله عنه فقد وصف رسول الله بصفات عظيمة
قل أن تجد بعضها في رجل أو أن تجتمع في أناس، كان رسول الله أشد الناس
لطفًا فما سأله سائل قط إلا أصغى إليه فلا ينصرف رسول الله حتى يكون
السائل هو الذي ينصرف وما تناول أحد يده قط إلا ناوله إياها فلا ينزع
يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منها»( ).
مع إكرامه لضيفه والتطلف معه إلا أنه كان رءوفًا بأمته، ولذا فهو ينكر
المنكر ولا يقبله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله رأى خاتمًا
من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها
في يده»( ).